![]() |
|
#1
|
||||||||
|
||||||||
![]() ![]() ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 35 – 41] تتضمن الآيات تذكرة ثانية بجملة من نعمه عقيب التذكرة الأولى التي يتضمنها قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ فذكر سبحانه أولاً نعمته على جمع من عباده المؤمنين وهم بنو إسرائيل من ولد إبراهيم، ثم ذكر ثانيًا نعمته على جمع آخر منهم وهم بنو إسماعيل من ولد إبراهيم، وهي التي يتضمنها دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ إلى آخر دعائه وفيها نعمة توفيقه تعالى لهم أن يجتنبوا عبادة الأصنام ونعمة الأمن بمكة وميل الأفئدة إلى أهله ورزقهم من الثمرات وغير ذلك، كل ذلك لأن الله سبحانه هو العزيز الحميد. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ أي واذكر إذ قال إبراهيم والإشارة إلى مكة شرفها الله تعالى. وقد حكى الله سبحانه نظير هذا الدعاء على اختصار فيه عن إبراهيم عليه السلام في موضع آخر بقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ البقرة: 126. ومن الممكن أن يستفاد من اختلاف المحكيين في التعبير أعني قوله: ﴿اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ وقوله: ﴿اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ أنهما دعاءان دعا عليه السلام بهما في زمانين مختلفين، وأنه بعدما أسكن إسماعيل وأمه أرض مكة ورجع إلى أرض فلسطين ثم عاد إليهما وجد من إقبال جرهم إلى مجاورتهما مكانًا ما سرّ بذلك، فدعا عند ذلك مشيرًا إلى مكانهم ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ فسأل ربه أن يجعل المكان بلدًا، ولم يكن به، وأن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات، ثم لما عاد إليهم بعد ذلك بزمان وجد المكان بلدًا فسأل ربه أن يجعل البلد آمنًا. ومما يؤيد كونهما دعاءين ما فيهما من الاختلاف من غير هذه الجهة، ففي آية البقرة الدعاء لأهل البلد بالرزق من الثمرات، وفي الآيات المبحوث عنها الدعاء بذلك لذريته خاصة مع أمور أخرى دعا بها لهم. وعلى هذا يكون هذا الدعاء المحكي عن إبراهيم عليه السلام في هذه الآيات آخر ما أورده الله تعالى في كتابه من كلام إبراهيم عليه السلام ودعائه، وقد دعا به بعدما أسكن إسماعيل وأمه بها وجاورتهما قبيلة جرهم وبنى البيت الحرام وبنيت بلدة مكة بأيدي القاطنين هناك كما تدل عليه فقرات الآيات. وعلى تقدير أن يكون المحكيان دعاء واحدًا يكون قوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْ﴾ إلخ تقديره: رب اجعل هذا البلد بلدًا آمنًا وقد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه وفي الأخرى الموصوف اختصارًا. والمراد بالأمن الذي سأله عليه السلام الأمن التشريعي دون التكويني، فهو يسأل ربه أن يشرع لأرض مكة حكم الحرمة والأمن، وهو – على خلاف ما ربما يتوهم – من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، فإنّا لو تأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم عليه السلام بإذن ربه، أعني حكم الحرمة والأمن، وأمعنّا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق وما أحاط به من حرم الله الآمن، وقد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم، وجدنا ما لا يحصى من الخيرات والبركات الدينية والدنيوية عائدة إلى أهلها وإلى سائر أهل الحق ممن يحن إليهم ويتعلق قلبه بهم، وقد ضبط التاريخ من ذلك شيئًا كثيرًا، وما لم يضبط أكثر، فجعله تعالى مكة بلدًا آمنًا من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده. قوله تعالى: ﴿واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس -إلى قوله – ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ يقال: جنبه وأجنبه أي أبعده، وسؤاله عليه السلام أن يجنبه الله ويبعده وبنيه من عبادة الأصنام لواذ والتجاء إليه تعالى من الإضلال الذي نسبه إليهن في قوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ﴾ إلخ. ومن المعلوم أن هذا الإبعاد والإجناب منه تعالى كيفما كان وأيًّا ما كان تصرف ما وتأثير منه تعالى في عبده بنحو، غير أنه ليس بنحو يؤدي إلى الإلجاء والاضطرار ولا ينجر إلى القهر والإجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتى يسأل ذلك مثل إبراهيم خليل الله. فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم في قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ الآية، أن كل خير من فعل أو ترك فإنه منسوب إليه تعالى أولاً، ثم إلى العبد ثانيًا بخلاف الشر من فعل أو ترك فإنه منسوب إلى العبد ابتداء ولو نسب إليه تعالى فإنما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة…. فالاجتناب من عبادة الأصنام إنما يتحقق عن إجناب من الله رحمة منه لعبده وعناية، وليس في الحقيقة إلا أمرًا تلبس واتصف به العبد، غير أنه إنما يملكه بتمليك الله سبحانه فهو المالك له بذاته، والعبد يملكه بأمر منه وإذن، كما أن العبد إنما يهتدي عن هداية من الله، وليس هناك إلا هدى واحد لكنه مملوك لله سبحانه لذاته، والعبد إنما يملكه بتمليك منه سبحانه، وأبسط كلمة في هذا المعنى ما وقع في أخبار آل العصمة أن الله يوفق عبده لفعل الخير وترك الشر هذا. فتلخص أن المراد بقوله عليه السلام ﴿وَاجْنُبْنِي﴾ سؤال ما لله سبحانه من الصنع في ترك العبد عبادة الأصنام، وبعبارة أخرى هو يسأل ربه أن يحفظه وبنيه من عبادة الأصنام ويهديهم إلى الحق إن هم عرضوا أنفسهم لذلك، وأن يفيض عليهم إن استفاضوا لا أن يحفظهم منها سواء عرضوا لذلك أنفسهم أو لم يعرضوا، وأن يفيض عليهم سواء استفاضوا أو امتنعوا فهذا معنى دعائه عليه السلام. ومنه يعلم أن نتيجة الدعاء لبعض المدعوين لهم وإن كان بلفظ يستوعب الجميع، وهذا البعض هم المستعدون لذلك دون المعاندين والمستكبرين منهم وسنزيده بيانًا. ثم هو عليه السلام يدعو بهذا الدعاء لنفسه وبنيه: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، وبنوه جميع من جاء من نسله بعده، وهم بنو إسماعيل وبنو إسحاق، فإن الابن كما يطلق على الولد من غير واسطة، كذلك يطلق على غيره، ويصدق ذلك القرآن الكريم قال تعالى: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ الحج: 78، وقد تكرر إطلاق بني إسرائيل على اليهود في نيف وأربعين موضعًا من كلامه تعالى. فهو عليه السلام يسأل البعد عن عبادة الأصنام لنفسه ولجميع من بعده من بنيه بالمعنى الذي تقدم، اللهم إلا أن يقال: إن قرائن الحال والمقال تدل على اختصاص الدعاة بآل إسماعيل القاطنين بالحجاز فلا يعم بني إسحاق. ثم عقب عليه السلام دعاءه: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ بقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاس﴾ وهو في مقام التعليل لدعائه وقد أعاد النداء ﴿رَبِّ﴾ إثارة للرحمة الإلهية، أي إني إنما أسألك أن تبعدني وبني عن عبادتهن لأنهن أضللن كثيرًا من الناس، ونسبة الإضلال إلى الأصنام لمكان الربط الذي بين الضلال وبينهن وإن لم يكن ارتباطًا شعوريًّا وليس من اللازم في نسبة أي فعل أو أثر إلى شيء أن يقوم به قيامًا شعوريًّا وهو ظاهر. ثم قوله عليه السلام: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ تفريع على ما تقدم من كلامه، أي إذا كان كثير من الناس أضلتهم الأصنام بعبادتهن واستعذت بك وعرضت نفسي وبني عليك أن تجنبنا من عبادتهن افترقنا نحن والناس طائفتين: الضالون عن طريق توحيدك والعارضون لأنفسهم على حفظك وإجنابك فمن تبعني إلخ. وقد عبّر عليه السلام في تفريعه بقوله: ﴿فَمَن تَبِعَنِي﴾ والاتباع إنما يكون في طريق – وقد لوح إلى الطريق أيضًا بقوله: ﴿أَضْلَلْنَ﴾ لأن الضلال إنما يكون عن الطريق – فمراده باتباعه التدين بدينه والسير بسيرته لا مجرد الاعتقاد بوحدانيته تعالى، بل سلوك طريقته المبنية على توحيد الله سبحانه ليكون في ذلك عرض النفس على رحمته تعالى وإجنابه من عبادة الأصنام. ومن الدليل على كون المراد بالاتباع هو سلوك سبيله قوله في ما يعادله من كلامه: ﴿وَمَنْ عَصَانِي﴾ فإنه نسب العصيان إلى نفسه ولم يقل: ومن كفر بك أو عصاك أو فسق عن الحق ونحو ذلك كما لم يقل فمن آمن بك أو أطاعك أو اتقاك وما أشبهه. فمراده باتباعه سلوك طريقه والتدين بجميع ما أتى به من الاعتقاد والعمل وبعصيانه ترك سيرته وما أتى به من الشريعة اعتقادًا وعملاً كأنه عليه السلام يقول: من تبعني وعمل بشريعتي وسار بسيرتي فإنه ملحق بي ومن أبنائي تنزيلاً أسألك أن تجنبني وإياه أن نعبد الأصنام، ومن عصاني بترك طريقتي كلها أو بعضها سواء كان من بني أو غيرهم فلا ألحقه بنفسي ولا أسألك إجنابه وإبعاده بل أخلي بينه وبين مغفرتك ورحمتك. ومن هنا يظهر أولا أن قوله عليه السلام: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ تفسير لقوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ بالتصرف في البنين تعميمًا وتخصيصًا، فهو كتعميم البنين لكل من تبعه من جهة، وتخصيصه بالعاصين له منهم من جهة أخرى، فليسوا منه ولا ملحقين به، وبالجملة هو عليه السلام يلحق الذين اتبعوه من بعده بنفسه، وأما غير متبعيه فيخلي بينهم وبين ربهم الغفور الرحيم كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ آل عمران: 68. وهذه التوسعة والتضييق منه عليه السلام نظير مجموع ما وقع منه ومن ربه في الفقرة الأخرى من دعائه على ما تحكيه آية البقرة: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ حيث سأل الرزق أولاً لأهل البلد ثم خصه لمن آمن منهم فعممه الله سبحانه بقوله: ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ ثانيًا. وثانيًا: أن من الممكن أن يستفاد من قوله عليه السلام فيمن تبعه: إنه مني وسكوته فيمن عصاه بعد ما كان دعاؤه في نفسه وبنيه أن ذلك تبن منه لكل من تبعه وإلحاق له بنفسه، ونفي لكل من عصاه عن نفسه وإن كان من بنيه بالولادة، أو إلحاق لتابعيه بنفسه مع السكوت عن غيرهم بناء على عدم صراحة السكوت في النفي. ولا إشكال في ذلك بعد ظهور الدليل فإن الولادة الطبيعية لا يجب أن تكون هي الملاك في النسب إثباتًا ونفيًا، ولا تجد واحدة من الأمم يقتصرون في النسب إثباتًا ونفيًا على مجرد الولادة الطبيعية بل لا يزالون يتصرفون بالتوسعة والتضييق، وللإسلام أيضًا تصرفات في ذلك كنفي الدعي والمولود من الزنا والكافر والمرتد وإلحاق الرضيع والمولود على الفراش إلى غير ذلك، وفي كلامه تعالى في ابن نوح: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ هود: 46. وثالثًا: أنه عليه السلام وإن لم يسأل المغفرة والرحمة صريحًا لمن عصاه وإنما عرضهم للمغفرة والرحمة بقوله: ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لكنه لا يخلو عن إيماء ما إلى الطلب لمن ترك طريقته وسيرته التي تعد الإنسان للرحمة الإلهية بحفظه من عبادة الأصنام، وهذا المقدار من المعصية لا يمنع عن شمول الرحمة وإن لم يكن مقتضيًا أيضًا لذلك، وليس المراد به نفس الشرك بالله حتى ينافي سؤال المغفرة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ النساء: 116. هذا محصل ما يعطيه التدبر في الآيتين الكريمتين وهو في معزل عما استشكله المفسرون في أطراف الآيتين ثم ذهبوا في التخلص عنه مذاهب شتى بعيدة عن الذوق السليم. فقد استشكلوا أولا قوله عليه السلام: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ من حيث إن ظاهره سؤال الحفظ عن عبادة الأصنام لنفسه ولبنيه جميعا فيكون دعاء غير مستجاب فإن قريشًا من بنيه وقد كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، وكيف يمكن أن يدعو مثل الخليل عليه السلام ثم لا يستجاب له؟ أم كيف يمكن أن يذكر تعالى دعاءه وهو لغو غير معني به ثم لا يذكر رده على خلاف مسلك القرآن في جميع المواضع المشابهة؟ ثم كيف يمكن أن يسأل لنفسه المصونية والعصمة عن عبادة الأصنام وهو نبي والأنبياء معصومون؟ وقد قيل في الجواب عن إشكال عدم استجابة دعائه في بنيه إن المراد ببنيه أبناؤه بلا واسطة كإسماعيل وإسحاق وغيرهما وقد استجيب دعاؤه فيهم، وقيل: المراد الموجودون من بنيه وقت الدعاء وهم موحدون، وقيل: إن الله قد استجاب دعاءه في بعض بنيه دون بعض ولا نقص فيه. وقيل: إن المشركين من بنيه لم يكونوا يعبدون الأصنام وإنما كانوا يتخذونها شفعاء، وقيل: إنهم كانوا يعبدون الأوثان دون الأصنام وبينهما فرق فإن الأصنام هي التماثيل المصورة والأوثان هي التماثيل غير المصورة، وقيل: إنهم ما كانوا يعبدون الأصنام بل كان الواحد منهم ينصب حجرًا ويقول: هذا حجر والبيت حجر، فكان يدور حوله ويسمونه الدوار. وسقوط هذه الوجوه ظاهرة: أما الأول والثاني فلكونهما خلاف ظاهر اللفظ وأما الثالث فلأن الإشكال ليس في ورود نقص على النبي بعدم استجابة دعائه أو بعضه لحكمة بل من جهة منافاته لمسلك القرآن في حكاية لغو الكلام من غير رده، وأما باقي الوجوه فلأن ملاك الضلال في عبادة الأصنام هو شرك العبادة وهو موجود في جميع ما افترضوه من الوجوه. وقيل في الجواب عن إشكال سؤال النبي الإبعاد والإجناب عن الشرك وهو نبي معصوم: إن المراد الثبات والدوام على ذلك، وقيل إنه عليه السلام ذكر ذلك هضمًا لنفسه وإظهارا للحاجة إلى فضله تعالى، وقيل: المراد سؤال الحفظ عن الشرك الخفي وإلا فالأنبياء مصونون عن الشرك الجلي هذا. وهذه وجوه ردية، أما الأول فلأنه لا ينحسم به مادة الإشكال إذ العصمة والمصونية كما أنها لازمة للنبوة حدوثًا لازمة لها بقاء فلو لم يصح للنبي أن يسأل حدوثها لمكان اللزوم لم يصح له أن يسأل بقاءها لذلك بعينه، والأصل في جوابهم هذا أنهم يزعمون انفصال الفيض عن المفيض واستقلال المستفيض فيما استفاضه بمعنى أن الله سبحانه إذا أفاض بشيء على شيء خرج ما أفاضه من ملكه ووقع في ملك المستفيض ولا معنى للسؤال ممن لا يملك وإذا قضى سبحانه بشيء حدوثًا أو بقاء قضاء حتم لا يتغير عما هو عليه، فإنه لا يتعلق على خلافه قدرة ولا مشية وهو خطأ فإن الحاجة من جانب المستفيض باقية على حالها قبل الإفاضة لا تختلف أصلاً، وملكه تعالى باق بعد الإفاضة على ما كان عليه قبلها ولا يزال سبحانه قادرًا له أن يشاء ما يشاء وإن كان لا يشاء فيما قضى بخلافه قضاء حتم، والسؤال والطلب من آثار الحاجة لا من آثار الفقدان فافهم ذلك… السيد محمد حسين الطبطبائي ﴿,QYA`X rQhgQ YAfXvQhiAdlE vQf~A h[XuQgX iQ`Qh hgXfQgQ]Q NlAkWh﴾ |
![]() |
![]() |
|
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|